ما كشفته دراسة الجمعية التونسية للمراقبين العموميين يوم الأربعاء 4 مارس الجاري عن تنامي ظاهرة «الفساد الصغير» لم يفاجئ الرأي العام التونسي، وذلك لأنه يتابع الندوات الصحفية والدراسات الّتي تتالت
في السنوات الأخيرة، معيدة كشف المكشوف الّذي لم يعد يخفى على أحد وأصبح المواطنون التونسيون يعايشونه يوميا ويشارك جزء منهم في مزيد استفحاله وتناميه.
لذلك فإن صرخات «الفزع» المتتالية، التي تتابعها السلطات الإدارية المعنية لم تعد تجدي نفعا، بل أصبحت بالنسبة لها أمورا مألوفة، تثير الرأي العام لبرهة ثمّ تدخل طي النسيان في انتظار صرخة أخرى ، يستهلكها الإعلام ثمّ ترمى الدراسات في سلّة المهملات أو تضاف للتقارير الأدبية للمنظمات المتابعة أو الراعية للحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد والرشوة.
فلا جديد يضاف عند القول بأن» أكثر القطاعات الّتي تنخرها ظاهرة الفساد هي الأمن والديوانة والقضاء والـصـحة، وأصـبـحت «الأحزاب السـيـاسيـة والنقابات والإعلام تتبوّأُ مراكز متقدّمة في درجات الفساد» فكل هذا من الأمور المشهودة والّتي يتابع الجميع تجلياتها يوميا.
إن التشهير بالفساد الصغير أو الكبير والإشارة إلى إستفحاله أو تناميه، قد يخيف متعاطيه لفترة، ولكن عندما يتوقّف الأمر على ذكر العموميات وتقديم الأرقام والنسب في مختلف القطاعات وتوزيعها على مختلف الفترات، دون التحوّل إلى البحث والتقصّي، والكشف الفعلي للأطراف الضالعة في الفساد ومحاسبتها، فإن ذلك يعدّ من قبيل التطبيع مع الفساد، وهو في حد ذاته مظهر من مظاهر الفساد.
فإذا عاين الجميع الفساد الّذي صاحب العمليات الانتخابية، وانكشف المستور، بتشكي وتظاهر المشاركين في الفساد أنفسهم، الّذين أصبحوا يطالبون «بحقوقهم» المتأتّية من مشاركتهم في الفساد، وتُنقل أخبار ذلك للعموم، ولم تحرّك أجهزة الرقابة والقضاء ساكنا، فهل يمكن أن نتحدّث عن توفّر إرادة مكافحة الفساد؟
لقد كان يُعوّل على دور الإعلام في نشر ثقافة المراقبة والنزاهة وفي مكافحة ظاهرة الفساد، فأصبح الحديث اليوم عن تبوّء الإعلام لمركز متقدّم في درجات الفساد. فالمساومات و المطالبة بالمقابل «المالي» أو «العيني» لنشر المقالات و إدراج الأخبار والتحقيقات، والتوظيف المفضوح لتلميع صور الساسة والأحزاب والإشهار «المجاني»، أصبح حديث القاصي والدّاني، ولا إرادة حقيقية وفعّالة لمجابهة هذا الفساد المتنامي.
إن الامر لم يعد مقتصرا على الصفقات العمومية وطريقة إسنادها وضبط الحاجيات وتصنيفها ورصد المزوّدين، وتوزيع المقاسم وإسناد الأراضي الفلاحية واستغلال المقاطع والملك العام برّا و بحرا، ودخول سوق الشغل والترقية والحصول على المناصب بالقفز على الأسبق، فالرشوة والفساد عمّا كل المفاصل ولم يعودا يستثنيان أي مجال.
والغريب أن هيئات الرقابة بكل تصنيفاتها موجودة في كل قطاع، ولكن بقيت تدير الأرقام ولا رقيب عليها، بل تجدها هي الأولى الّتي تشتكي من الفساد، وكأنه قضاء منزّل عليها.
إذن المطلوب ليس إعلام العموم بما يعلمون، بل توفير الآليات الضرورية لمجابهة الفساد والرشوة، وإعمال القوانين وتطبيقها بحزم، وهذا يقتضي إرادة سياسية قوية تجعل هذه المسألة من اولوياتها ، خاصّة وأن الماسكين بالسلطة يدركون أن تسرّب الإرهاب ما كان ليحصل لو لم يكن الفساد سائدا وطليقا في مجال التهريب وتبييض الأموال وبعث «الكائنات» الوهمية لتجميع المال وشراء الذمم. والإرادة السياسية الجديدة يجب أن تبرز، بدءا بوضع مسؤولين معروفين ومشهود لهم بالكفاءة والنزاهة و مشهود لهم بالجرأة في المجابهة وفي اتخاذ القرار.