كل الأدلّة تشير إلى تورّط جهات بعينها ونصف «شيفرات» الملف مع عبد الحكيم بلحاج – «في هذا الملف الحكومة لا حول لها ولا قوّة» هكذا قال وزير حالي لنائبة في البرلمان
في دولة تضع مقاومة الإرهاب ضمن أبرز أولويات العمل الحكومي تبقى شبكات تسفير الشباب التونسي للقتال في بؤر التوتّر،”خطّا أحمر”، لا يجوز الاقتراب منه ومن يتجرّأ على هذا الملف “المحرّم” يجد نفسه مُقالا من رئاسة اللجنة البرلمانية التي بُعثت للتحقيق في شبكات التسفير كالنائبة بمجلس نواب الشعب ليلى الشتاوي، أو معزولا من الإمامة كالإمام الخطيب علي غربال لمجرّد أنه ألقى خطبة حول إجرام شبكات التسفير، أو مُلاحقا قضائيا لمجرّد حديثه عن شبهات تُلاحق أحزاب أو شخصيات سياسية أو جمعيات “خيرية”!!! ..
في المقابل نجد أئمة ودعاة ووعاّظا أعلنوا في بلاتوهات تلفزية دعمهم للجهاد في سوريا وحثّوا الشباب صراحة على ذلك ويقدّمون برامج دينية، ونجد أحد المقرئين الذي زّف على حسابه خبر “استشهاد” شاب تونسي في سوريا ينشر على صفحته الرسمية صورة للذكرى مع وزير الشؤون الدينية الحالي والذي كرّمه في مسابقة لاختتام القرآن الكريم منذ أشهر قليلة.. ونجد أيضا نوابا وأحزابا يقودون حملة شعواء على اللجنة البرلمانية الخاصّة للتحقيق في شبكات التسفير ويبذلون قصارى جهدهم لتعطيل عملها، ونجد رئيس ديوان وزير الشؤون الدينية يقول للإمام الخطيب علي غربال الذي روى لنا الواقعة، حرفيا “ما كان عليك أن تتطرق إلى موضوع شبكات تسفير الشباب التونسي إلى سوريا”، كما نجد الدولة تتلكّأ في التعاون أمنيا مع دول أجنبية تعتقل تونسيين التحقوا بأراضيها للقتال وترفض إعادة العلاقات مع سوريا وإرسال لجان تحقيق رسمية للكشف عن ملابسات وصول هؤلاء الشباب إلى دمشق أو بغداد والتحاقهم بـ”داعش”، وترفض الدولة كذلك تسلّم المعتقلين في ليبيا أو التنقّل للتحقيق معهم في سجن معيتيقة وغيره من السجون الليبية وتتحجّج كل مرّة بحجج واهية.
كل هذه الوقائع والتفاصيل الخطيرة المتعلّقة بملف شبكات تسفير الشباب التونسي للقتال في بؤر التوتّر وتحت رايات الجماعات الإرهابية خاصّة في ليبيا وسوريا يطرح أكثر من سؤال حول الطرف المستفيد من طمس هذا الملف والتعتيم عليه بل وقبره نهائيا وهو ما يفتح الباب للشكّ والتخمين في الأطراف النافذة والفاعلة في الدولة والتي استطاعت أن تكون لها القدرة على “تعويم” هذا الملف الذي بات “ملفا هلاميا” ورتّب “جريمته السوداء” لكن كل الأدلّة والحجج حوله تبخّرت بطريقة غريبة.
إمام خطيب يدفع الثمن
لم يدر بخلد الإمام الخطيب بجامع السلام بحي النصر، الشيخ علي غربال، أن الخطبة التي ألقاها بمناسبة عيد الفطر سنة 2016 ستكون سببا في عزله من على منبر الجامع المذكور لمجرّد تطرّقه لملف شبكات التسفير إلى سوريا وما يحوم حولها من شبهات وشكوك،علي غربال اعتبر أن ما تعرّض له “مؤامرة” لإجباره على الصمت وعدم كشف ما يملكه من معلومات ومعطيات خطيرة تورّط أطرافا نافذة في الدولة في هذا الملف.
علي غربال الذي عُزل في عهد وزير الشؤون الدينية الأسبق محمّد خليل يؤكّد تواطؤ أطراف في وزارة الشؤون الدينية مع الفكر الإرهابي وشبكات التسفير، ويروي تفاصيل صادمة عن العملية التي حفّت بعزله منها مقابلة للنظر في قرار التراجع على عزله، جمعته برئيس ديوان وزير الشؤون الدينية، ويقول غربال “رفع رئيس الديوان سماعة هاتفه أمامي واتصل بالمدير العام للمعالم الدينية س.ق وسأله: هل اطلعت على ملف سي علي غربال؟ وكان الجواب: “الملف خال من أي مؤاخذة قانونية، والسيد علي غربال عزله محمد خليل بتلفون”.
ورغم أن علي غربال تم تعيينه إماما خطيبا في جامع عمر بن الخطاب بالعمران إلا أنه تمسّك بحقه في العودة لمنبر جامع السلام الذي عُزل منه بطريقة غير منطقية، ولكن في لقاء ثان جمعه برئيس الديوان في عهد الوزير الأسبق عبد الجليل بن سالم الذي تم عزله لاحقا بعد اتهامه للملكة العربية السعودية بأنها راعية لفكر الوهابي المتطرّف، يقول غربال عن هذا اللقاء”رئيس الديوان قال لي وقتها يتعذر علينا إرجاعك إلى جامع السلام، لأن من عزلك لن يسكت إذا نحن أرجعناك، ولأننا نخاف عليك وعلى الوزير إذا نحن أرجعناك”.
ويضيف علي غربال “بعد ذلك بأيام، اتصل بي رئيس الديوان وقرأ علي عبر الهاتف رسالة تهديد للوزير أرسلها إليه بعض أصحاب الفكر المتطرف لإثنائه على إرجاعي إلى جامع السلام بحي النصر ! ولكنني رغم ذلك عاودت الذهاب للوزارة، حيث قال لي رئيس الديوان مجدّدا “من المستحيل عودتك إلى جامع السلام والحال أن الشخص الذي طلب عزلك منه طرف في الحكم، ثم أنت ما كان عليك أن تتطرق إلى موضوع شبكات تسفير الشباب التونسي إلى سوريا.”..
ولم يعد إلى الآن علي غربال لجامع السلام هذا الجامع الذي قام بـ”رسكلة” عشرات الشباب الجهادي قبل إرسالهم إلى سوريا ومنهم الشاب محمود كشّاط الذي قُتل في سوريا في 2014 الذي “زفّ خبر استشهاده وهو يجاهد” المقرئ م.ر الذي كرّمه وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم بمناسبة اختتام مسابقة لختم القرآن منذ أشهر في جامع الحيّ الأولمبي، ومن “خرّيجي” جامع السلام الذي كان تحت سطوة متطرّفين قبل إمامته من طرف علي غربال وعاد لبثّ التطرّف بعد عزله، الشاب شادي الحمروني، مضيّف الطيران الذي قُتل في بغداد بعد استقطابه للجهاد من خلال هذا الجامع، كما تشهد بذلك عائلته.. ومن جامع السلام أيضا بدأت مأساة عائلة بيوض بعد أن التحق ابنها أنور بيوض وصديقته بسوريا للقتال، ليلتحق به والده العميد بالجيش الوطني،في رحلة بحث انتهت بمقتل الأب بعد تفجير إرهابي في إحدى المطارات التركية.
علي غربال يقول إن الجميع يعلم بما حصل له بما في ذلك رئيس الحكومة الذي قال انه قابله بجامع الزيتونة بمناسبة 27 رمضان الماضي وقال له حرفيا “في بالي بحكايتك” ثم تركه وغادر، ويقول أيضا أنه حاول الاتصال بالنواب جميعا لإنصافه ومنهم نائبة عن الجبهة الشعبية أخبرته في محادثة نشرها على صفحته الخاصّة أنها اتصلت بالناطق الرسمي للحكومة إياد الدهماني لاستجلاء ملابسات هذا الملف وقال لها حرفيا “في هذا الملف لا حول لنا ولا قوّة،رئيس(…) هو من يعزل ومن يعيّن..”.
أطراف سياسية متورّطة
منذ إحداث اللجنة البرلمانية الخاصّة للتحقيق في شبكات التسفير والجدل لم يهدأ حول هذه اللجنة، وبلغ هذا الجدل ذروته بعد إقالة رئيستها وصاحبة مبادرة بعثها، ليلى الشتاوي، بطلب من رئيس الكتلة البرلمانية لحزب نداء تونس، وقد علّقت الشتاوي عن ذلك بقولها “فرصة سانحة لعدم مواصلة الخوض في ھذا الموضوع الخطیر والحساس”، مؤكّدة أن اللجنة بدأت تكشف في حقائق خطيرة حول هذه الشبكات.
وعادت الشتاوي إلى اللجنة مرّة أخرى ولكن تحت قبعة حزب مشروع تونس وكتلة الحرّة هذه المرّة، وكانت ضمن الوفد البرلماني الذي زار المعتقلين التونسيين في دمشق، وقالت بعد عودتها أنّ أحد التونسيين المعتقلين في سوريا قال للوفد البرلماني الذي زار دمشق مؤخرا، إنّ إماما في جهة حمام الغزاز بولاية نابل محسوب على حركة النهضة هو من شجعه على السفر إلى سوريا.
وفي وقت سابق أكّد المكلّف بالملف السياسي في حركة نداء تونس، برهان بسيّس،أنه يملك مستندات ووثائق تكشف تورط أطراف من “الترويكا” في تسفير الشباب إلى بؤر التوتر مؤكّدا أنه سيعرض ما يملكه من مستندات ووثائق على لجنة التحقيق حول شبكات التسفير إلى بؤر التوتر صلب البرلمان.
وفي شهر أفريل الماضي قال وزير الداخلية الهادي المجدوب خلال جلسة استماع له من طرف لجنة التحقيق البرلمانية في شبكات التسفير أن جوازات السفر التي تم استخدامها في التسفير هي جوازات ليبية مزورة وليست تونسية.
وبات من شبه المؤكّد اليوم أن نصف “شيفرات” ملف التسفير في ليبيا، وذلك من خلال معطيات منطقية فرضت أسئلة حارقة حول لماذا ترفض الدولة إرسال لجان تحقيق إلى ليبيا للتحقيق مع التونسيين المعتقلين في السجون الليبية؟ وقد اعترف العقيد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، في وقت سابق أن المدعو المهدي الحاراتي مؤسس لواء الأمة في سوريا فتح معسكرات تضم أفرادا من مصر وليبيا وتونس والنيجر وكان يرسلهم إلى سوريا وكانت قطر مهمتها نقل هؤلاء إلى تركيا ومن ثم إلى سوريا.
وقد عرف عن “الحاراتي” بأنه من أصحاب الفكر الجهادي قام بنقل مقاتلين أجانب وليبيين من سوريا إلي ليبيا عن طريق إدخالهم إلي تركيا ومن ثم نقلهم على طائرات شركه الأجنحة للطيران التي يملكها عبد الحكيم بلحاج، الأمير السابق للجماعة الليبية المقاتلة، وقد زار بلحاج تونس في 2012 وتربطه علاقات مميزة بقيادات سياسية تونسية.
وقد أكدت ليلى الشتّاوي، عند ترؤسها لـ”لجنة التحقيق في شبكات التسفير إلى بؤر التوتر”،أنّ عبد الحكيم بلحاج، رئيس حزب الوطن الحر الليبي، كان له دور في تسفير الشباب الذين كشفت التحقيقات أنّه التقى بهم، وتحدث إليهم.
يمكنكم قراءة المقال الأصلي على موقع الصباح