لم تتوقّف وسائل الإعلام التونسيّة، بالتمحيص والتحليل، عند تصريح في غاية الخطورة لقائد الجيش الليبي الجنرال خليفة حفتر، ذكر فيه منذ أيّام أنّ قواته أفرجت عن أغلب المقاتلين التونسيين الموقوفين على الحدود بين البلدين. وهو تصريح ينطوي على نبرة غير خفيّة من الابتزاز والتهديد المغلّف، قابلها أعلى هرم السلطة بالتجاهل والتهاون المعتاد في التعامل مع الملف الليبي الحارق. هكذا تبدو لنا الخلفيّات…
قال الجنرال خليفة حفتر، في تصريح صحفي منذ أيّام، إنّ أغلب التونسيّين الذين حلّوا بليبيا منذ اندلاع ثورة 17 فيفري هم من“الانتحاريين“، مُعلنا أنّه “تمّ الإفراج عن أغلب المقاتلين التونسيين الذين قُبض عليهم على الحدود لغياب التعاون الأمني مع السلطات التونسيّة“. حفتر رمى بقنبلته في شباك الجانب التونسي، مُتجنّبًا الخوض في ما وراء خطابه ودلالاته وتفاصيله.
تهديد مكشوف !
ليس من الصعوبة على المتلقّي أن يفهم، بمجرّد قياس منطقي، أنّ حفتر يعني بتأكيده أوّلا أنّ أغلب التونسيين الذين حلّوا بليبيا بعد الثورة من الانتحاريين، وكشفه ثانيا أنّ قوّاته أفرجت عن أغلب المقاتلين التونسيين، أنّ المقصود هو أنّ قوّات الجيش الليبي أفرجت تحديدا عن هؤلاء “المقاتلين الانتحاريين“، باعتبارهم يُشكّلون وفق زعمه أغلب التونسيين الذي التحقوا بليبيا. وهو ما يعني أنّ قوّاته أفرجت عن جماعات إرهابيّة، فرادى ومجموعات، بما أنّ المقاتلين الانتحاريين لا يُمكن أن يكونوا في هذه الحالة إلاّ متطرّفين يجنحون إلى الإرهاب لتحقيق أهدافهم.
وطبعًا فإنّ هذا الخطاب ينطوي على تهديد واضح وابتزاز سياسي وأمني جلّي ومباشر موجّه أساسًا إلى السلطات التونسيّة التي اتّهمها بعدم التعاون الأمني مع أجهزته. وبتأكيده على أنّ قوّاته قد أفرجت أصلا عن هؤلاء الإرهابيين فكأنّه يخاطب السلطات التونسيّة قائلا: “قرّرنا أن نُعيد إليكم إرهابييكم، أي إلى بلادكم تونس، من حيث جاؤوا على حدودكم“.
في خضم هذه الجمل المحسوبة والمختزلة جدّا، برّر حفتر قراره بالإفراج عن هؤلاء المقاتلين الانتحاريين، وإن لم يَسِمهم بتهمة الإرهاب، بغياب التعاون الأمني للجانب التونسي مع قوّاته وأجهزته ذات الاختصاص.ومع ذلك فقد حاول قائد الجيش الليبي التهوين من خطورة تصريحه بالقول إنّه في حال وجود “عناصر إرهابيّة خطرة” يتمّ الاتصال ببلدانهم لإعلامهم قصد اتّخاذ الاحتياطات اللازمة. ويبدو أنّه تعمّد أن يكتنف كلامه شيء من الغموض بهدف الإبقاء على فاصلة للمناورة والعودة، عبر إعطاء كلامه معانٍ مغايرة في حال استجابت السلطات التونسيّة لشروطه أو مطالبه.
ومع أنّ خليفة حفتر قد اختار أن يجعل كلامه فضفاضا، فإنّ له دلالات واضحة بشأن ما يعنيه من تعثّر أيّ حوار بينه والجانب تونسي، لذلك فسّر قراره بانتفاء أيّ تعاون أمني مع السلطات التونسيّة، مرجعا أسباب ذلك بوضوح إلى التونسيين، فبدا يقول ضمنيّا إنّه على استعداد للتعاون في المجال الأمني مع تونس، لكن أمام انعدام تفاعل الجهة المقابلة قرّر اللجوء إلى طرد الانتحاريين التونسيين إلى بلدهم.
وللإشارة فإنّه قد سبق لحفتر أنّ وجّه رسائل إلى السلطات التونسيّة.فقد اعتبر أنّ موقف رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي بشأن السماح لطائرات أمريكيّة بالتحليق فوق الأراضي الليبيّة “شأن داخلي تونسي” نظرًا إلى استفادة قائد الجيش الليبي من العمليّات العسكريّة الأمريكيّة ضدّ مناوئيه في الغرب الليبي المحاذي لتونس. كما سبق أن سُرّبت معلومات عن تقديم حفتر، سنة 2016، عرضا إلى كلّ من تونس والجزائر يتعلق بتسليمهما 33 إرهابيا من بينهم 20 تونسيًا، مقابل دعمه إقليميّا ودوليّا لتحقيق هدفه المتمثل في تعديل اتفاق الصخيرات الذي أبعده عن المعادلة السياسيّة في ليبيا، في تناقض مع حقيقة سيطرته على الميدان.
مغالطة تونسيّة متعمّدة
لم يكن ردّ الجانب التونسي على تصريح خليفة حفتر مفاجئا، فقد جاء عموميّا بعيدًا عن توصيف دقيق لحقيقة الأوضاع وللخلاف القائم بين تونس وشقّ حفتر الذي حقّق توسّعًا غير مسبوق في السيطرة على مساحات مهمّة من الأراضي الليبيّة. وكان وزير الشؤون الخارجية خميس الجهيناوي قد أكد في تصريح صحفي بمناسبة انعقاد الدورة الـ35 للندوة السنوية لرؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلة، أنّ“التعاون الأمني والقضائي بين السلطات التونسيّة والليبيّة قائم ولم ينقطع“. وهو بذلك يردّ بشيء من الاحتشام على التصريحات الأخيرة للجنرال حفتر القائلة بعدم وجود تعاون أمني بين الجانبين.
وتدليلا على ما ذهب إليه، أشار الجهيناوي إلى أنّ زيارة النائب العام الليبي الصديق الصور، إلى تونس مؤخرا، تندرج في سياق التعاون القائم بين البلدين. وهو ما يبدو غير متجانس مع واقع السيطرة على الأرض في ليبيا.
ومن الواضح أنّ وزير الشؤون الخارجيّة لم يكن يمتلك ردّا آخر، بل وما كان بإمكانه تجاوز صلاحياته التي حدّدها له رئيس الجمهوريّة بوصفه المشرف دستوريّا على السياسة الخارجيّة والدفاعيّة للبلاد. في المقابل تعمّد الجهيناوي تجنّب الخوض في التفاصيل المربكة والمفرغة للسياسة التونسيّة إزاء ليبيا من أيّ ثقل ومضمون. والأكثر من ذلك أنّ ردّه ينطوي على نوع من المغالطة باعتبار أنّه حتّى النائب العام الليبي المذكور يُعدّ تابعًا للمؤسّسات الليبية التي تُصرّف حكومة السرّاج شؤونها والتي يكاد قائد الجيش الليبي خليفة حفتر لا يعترف بها، رغم ما يُعلن في بعض المنصّات الإعلاميّة والسياسيّة بين الحين والآخر من توافق وتوافقات.
نهاية المبادرة التونسيّة
في المقابل، يبدو أنّ السلطات التونسيّة لا تزال غارقة في نوع من المكابرة غير المبرّرة، فالرسائل المبطّنة الأخيرة لحفتر تعني بشكل جليّ أنّه لم يعد هناك مجال للحديث أصلا عن وجود مبادرة لرئيس الجمهورية حول ليبيا ولم يعد هناك أثر وتأثير لـ“إعلان تونس للتسوية السياسية الشاملة في ليبيا“. كما بدا أنّ شعرة معاوية بين قايد السبسي وخليفة حفتر تكاد تنقطع لأسباب غير واضحة، ناهيك وأنّ تونس تكاد تكون دولة الجوار الوحيدة لليبيا التي لم يزرها حفتر رسميّا إلى حدّ اليوم.
وقد بلغ الأمر، هذه الأيّام، أنّ وزير الشؤون الخارجيّة التونسيّة احتاج للاطلاع على نتائج اللقاء المنعقد مؤخرا بباريس بين رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السرّاج والجنرال خليفة حفتر، إلى أن اتّصال هاتفيّ مع وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، وكأنّ ليبيا مجاورة لفرنسا لا لتونس التي لو كان لها تأثير فاعل في الملف الليبي كما ينبغي للأمر أن يكون لانعقدت القمّة الليبيّة في تونس، ولكانت السلطات التونسيّة هي الوسيط الأساسي الذي يُطلع العالم على فحوى التطوّرات السياسيّة في الجوار الليبي.
وإجمالا يبدو أنّ غياب التواصل بين أعلى هرم السلطة في تونس وأحد أهمّ حلقات الحلّ والربط في ليبيا، هو الذي أوصلنا إلى حال بلد يتعرّض للابتزاز السياسي عبر التهديد بإغراق البلاد بإرهابييها الموقوفين في ليبيا. ومع ذلك يبدو من الواضح أنّ التونسيّين مضطرّون، اليوم أو غدا، لاستقبال خليفة حفتر وإيجاد أرضيّة للتنسيق معه بما يحفظ مصالح تونس. ولئن كان من الضروري ألاّ تتأخّر معالجة الخلافات القائمة بين الجانبين كثيرًا من أجل تجنّب للمزيد من تعقيد الأوضاع، فإنّه يُفترض بالسلطات التونسيّة أن تهتمّ كذلك بكلّ التفاصيل وأن تفعل كما الجزائر التي ألزمت حفتر بألاّ يطأ أراضيها إلاّ بزيّ مدني لا عسكري.
ولا يخفى أيضا أنّ المشهد السياسي والعسكري في ليبيا مازال يتّسم بالتشعّب والفوضى، رغم تراجع القوّة الضاربة للتنظيمات الإرهابيّة. وهو ما يدعو إلى تجنّب وضع كلّ البيض في سلّة واحدة.فإجادة لعبة التوازنات لا تقتصر على قوّات الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، بل تضمّ أيضا القوّات والميليشيات التابعة لمدينة مصراتة التي تُنسّق مع حكومة السرّاج ولا تزال قويّة في الداخل الليبي شمالا وجنوبا. وفي المقابل مازالت بقايا التنظيمات الإرهابيّة وخلاياها النائمة تتحيّن الفرص لاستعادة نفوذها المهدور، وخاصّة في صبراتة القريبة من الحدود التونسيّة، فهي تُعدّ معقلا متقدّمًا لعصابات تهريب البشر وموئلا لبعض الجماعات المتشدّدة التي لا تنظر بعين الرضاء إلى ما يدور في تونس…
This is only an excerpt. You can read the full article on الشارع المغاربي