كنا نشرنا يوم أمس وبصفة حصرية النص الكامل لمشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة وقد أتينا على أهم التضييقات الخطيرة التي تضمنها والتي تمس بصفة جوهرية من حق المواطن في المعلومة المضمون دستوريا بمقتضى الفصل 32 وتحدثنا أيضا عن الروح الزجرية المبالغ فيها والسارية فيه والتي تنذر بعودة الدولة البوليسية ولكن هذه المرة تحت غطاء القانون.
واليوم ننشر جزءا من ردود الفعل لسياسيين ولجمعيات حقوقية ومهنية كما نريد أن نتوقف هنا على مسألة على غاية من الأهمية وهي كيف سمحت الحكومة لنفسها بتمرير مشروع بمثل هذه الخطورة على مجلس نواب الشعب دون أن تنتبه إلى الطبيعة المعادية لحقوق الإنسان وللحريات الذي تطبعه من فصله الأول إلى فصله الأخير؟.
إننا هنا أمام أزمة حوكمة عميقة وأمام غياب مذهل للحسّ السياسي إذ لا يتصور عاقل واحد بأن مشروعا كهذا يمكن أن يصدر عن حكومة جاءت بعد انتخابات ديمقراطية وبعد ثورة شعبية وفي إطار انتقال ديمقراطي يشيد به القاصي والداني.
لا نعتقد.. ولا نريد أن نعتقد أن هنالك نيّة مبيّتة لتمرير مشروع يضرب الحريات والحقوق في مقتل.. وما نرجحه إثر اتصالنا ببعض المقربين من القرار الحكومي أن المشروع مرّ هكذا دون انتباه سياسي ودون نقاش جدي داخل مجلس الوزراء ودون قراءة سياسية وحقوقية لمدلوله ولخلفياته ويبدو أن صياغته قد تركت لاجتهاد بعض الإداريين دون أن يتم اتفاق واضح داخل الحكومة على فلسفة هذا المشروع.
إن محاربة الإرهاب، وهي همّ كل التونسيين، لا يمكن أن تبرر خنق الحريات وحرية التعبير على رأسها وينبغي أن نذكر الدولة – وهنا لا نتحدث عن حكومة بذاتها بل عن أجهزة الدولة – إنه لولا عمل الإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني والنقابيين الأمنيين أيضا لما انتبه المجتمع لما كان يُحاك له من قبل مجموعات الإجرام الإرهابية.. فهل يُعقل أن نأتي اليوم ونقطع الغصن الذي أنقذ البلاد والعباد؟
هل يتصور عاقل واحد أن نمرر إلى مجلس نواب الشعب مشروعا يجرّم العمل الإعلامي ويجعل من الصحفي مجرّد ناقل لبيانات وزارة الداخلية والدفاع؟ وهل يعقل أن يعفي مشروع قانون الأمني الذي قتل من سعى للاعتداء على المقرات الأمنية من كل تتبع جزائي؟! ألا ينبغي أن يترك هذا الأمر للقضاء حتى يبت حسب الحالة وحتى يتأكد لديه بأن الأمني كان في حالة دفاع شرعي؟! وهل يعقل أن نعاقب بعض شبابنا بعشر سنوات سجنا كاملة لأنه ساهم في جمع غير مسلح وهم بالاعتداء على مقر أمني وأن تضاعف له العقوبة لو كان في ذلك الجمع من يحمل سلاحا أبيض وهو مخفيه؟!
كيف يمكن أن يتم حتى مجرد التفكير في مشروع قانون كهذا وكيف فقدت الحكومة كل حسّها السياسي وكل دوائرها الرقابية وكل يقظة ممكنة والحال أن البلاد مازالت متحفزة ولو بصور متعثرة لبناء ديمقراطيتها الوليدة؟!
إن قراءة متمعنة وهادئة لمشروع القانون هذا تفيد مباشرة وبطريقة واضحة أنه مشروع لا يَصلُح ولا يُصلَح على حدّ العبارة الشهيرة للمنصف المرزوقي وأن الموقف الحكومي الوحيد الممكن اليوم هو سحبه من مجلس نواب الشعب وإعادة مراجعته بصفة جذرية قلبا وقالبا هذا إن كان لا بد من قانون خاص لحماية الأمنيين…
إن حماية الأسلاك المسلحة بمقراتها وأعوانها وعائلاتهم ومنازلهم وسياراتهم هو أقل ما يمكن أن تقدمه تونس لهؤلاء الذين يضحون بأنفسهم من أجلها ولكن أن يكون هذا على حساب الحقوق والحريات الأساسية فلا وألف لا وهو في كل الأحوال يؤدي إلى عكس المطلوب ويخلق توجسا من الأسلاك الأمنية بدل مواصلة تجسير الثقة بينها وبين كل مكونات المجتمع بمن فيهم الشباب المهمّش في الأحياء الشعبية وفي كل مدن وقرى تونس…
لقد أثبت تمرير الحكومة لمشروع قانون كهذا غياب الحس السياسي في حوكمتها ولعل هذا هو أخطر ما في هذه القضية كما أثبت الغياب شبه الكلي للأحزاب المكونة لهذا الائتلاف الحاكم عن الفعل والتأثير في المشهد العام…
هل يكون الحل في هذا «الحزام السياسي» الذي يتحدث عنه بعضهم؟ المهم على كل حال هو الإصلاح الجذري لهذا الخلل.. فمشاكل تونس لا تُحل إلا بنظرة سياسية تتلاءم ومقتضيات ثورة الحرية والكرامة لا بمعالجات بيروقراطية أثبت الزمن تكلسها وفشلها.
لقراءة الخبر من المصدر اضغط على الرابط.